الإقتصاد المعرفي
د. فيصل خالد الغريب
رئيس شركة إقتصاد المعرفة
تشكل المعرفة ، مصدر الثروة الذي لا ينضب على الإطلاق ، ولا تقتصر الثروة على الصفة النقدية أو المادية وتتعدى ذلك إلى ما هو أبعد بكثير من ذلك فيدخل فيها الاحتراز وتوفير مقومات المبادرة ، وتهيئة ظروف البيئة العملية ، وشق الطريق نحو المستقبل بوضوح أكبر وثقة في تحقيق نتائج شبه محققة .
ويمثل الاقتصاد المعرفي البديل الأول لأي ثروة قومية قابلة للنضوب ، ويعمل على توفير الضخ النقدي اللازم من خلال تحويل البيانات إلى نقد سائل قابل للتداول والاستثمار في دوائر التنمية الاقتصادية للعالم ، والمعرفة تفوق الحد اللفظي للمدلول اللغوي لكلمة “معرفة ” إلا أنه مصطلح تعارف عليه الجميع .. وهنا أجد من الضرورة أن أشير إلى أن المعرفة في حد ذاتها متوفرة في الغالب الأعم منذ الأزل وهي متيسرة لمعظم سكان الكوكب ، إلا أن الأمر يتعدى صفة المعرفة إلى ما هو أعمق ، بحيث يمكن للعارف الاستفادة من هذه المعرفة وتوظيفها ، وهذا لا يحسنه إلا القليل ، وعليه فهو الآن منتج بشري في باكورة توهجه في عصرنا الحاضر وسيظل الأمر جاذباً لقرون من الزمن أو يزيد .. مع العلم انه وجد مع نشأة الكون وقد بينت هذا في موضع آخر بالتفصيل .
ولنتمكن من تصور ثروة المعرفة علينا أن ندرك أن نظرة خبير إلى صورة تذكارية يمكنها أن تحول الأمر إلى مشروع مادي قابل للتنفيذ المباشر بعد معالجته بأدوات ذهنية خاصة ، فالتحليل والاستنتاج العلمي ومخالفة المألوف والتناقض المدروس كلها روافد من روافد المعرفة الحديثة ، وهي في معظمها أساليب غير معتمدة أو كما يحلو للبعض قول ” غير معترف بها ” وهي عبارة دالة عن جهل بالمعرفة ، ولذلك فأساليب التعليم من أقصاه إلى قصاه – في بلداننا - عدى ما ندر لم تعطي عبر عقود من تطورها نتائج تشبه ما عليه الاقتصاد المعرفي المنشود ذا الثمرة، وهذا دليل وجود خطأ ما تم التغاضي عنه بإجحاف لحقوق البشرية على الأرض .
يمكن لخبراء المعرفة إعادة تدوير البيانات لتحويلها إلى نتائج ربحية ، أو حماية من خسائر محققة ، فالمعرفة تفتح الآفاق وتنمي الاقتصاد في مرحلة التخليق ، وهي مرحلة ذهنية متقدمة لا تتوفر في عالمنا العربي بشكل عام ، لا لكونها صعبة بل لغياب البنية التحتية في النظم والسياسات العامة للدول والحكومات ، وإلا فإن الاقتصاد المعرفي ليس حكراً على أحد على الإطلاق ، وتحضرني نماذج حقيقة في بيئات لا تعترف ولا تعتمد الاقتصاد المعرفي وهي تحقق ربحية في إطار التضييق عليها بلا وعي نُظمي .
ذكرت في مقام سابق ، أن المعرفة ثروة عسكرية واقتصادية واجتماعية وبيئية وسياسية ، وهي ثروة في كل شيء ، فالمستشارون والمحللون والخبراء هم قوام هذه الصنعة الحديثة على هذا العصر المنعزل عن ماضيه البشري السحيق ، يمكننا استثمار الماضي لتحقيق ثروة المستقبل ، كما يمكننا صناعة المستقبل من خلال المعرفة ، ومن عدم المعرفة القول بغير ذلك .. لا يدهشني البطء في الحركة المعرفية وقد ذكرت السبب ، بل يدهشني الانبهار بالاقتصاد المعرفي وكأنه حدث جديد على الكوكب ، وهو في نظري صورة نمطية للتطور الذهني والفكري البشري عبر الأجيال البشرية على كوكبنا .. وعندما نتحدث عن اقتصاد المعرفة فعلينا التحدث عن نظريات تتعلق بالاندثار المعرفي وتوالي الحضارات البكر على الكوكب وفناء المعرفة ، هذا يحدث الثورات الجديدة في إطار معرفة سابقة بائدة .. لا أرغب حقيقة في الغوص في فلسفة المعرفة وتطور العلوم ، إلا أنني سأكتفي بالإشارة إلى أمر مهم ، وهو مرتبط بذواتنا البشرية الفردية بعيداً عن النظم التعليمية العقيمة ذات المخرجات المخجلة ، أقول بأن علينا النظر في أنفسنا إن رغبنا في خوض غمار الاقتصاد المعرفي ففي داخلنا تكمن أدوات تشغيل الاقتصاد المعرفي الأساسية ، وهنا سنتخطى التجارب الفاشلة أو الأداء الهزيل في مضمار هذه الثروة الاقتصادية الحديثة وستكون لنا فرص إن رغبنا نحن في ذلك .
وهناك خطورة بالغة تتعلق بالوجود في حال تمت السيطرة المعرفية من قبل تكل بشري محدد من مجموع التكتلات البشرية على هذا الكوكب ، وخصوصاً إذا كان من عرق أو توجه فكري أو جغرافي خاص ، فإنه سيمتلك أدوات يصعب صدها إن عمل على إفناء البقية ، وإن كان هذا تطرف خيالي ذهني من قبلي كما سيحلو للبعض الظن به إلا أنه احتمال لا ينبغي تجاهله ، وعليه فإن المسارعة للعقلاء خير من الكسل وترك الأمر للتطور العشوائي هنا وهناك ، والمنظم في جهات معينة من الكوكب على حساب الآخرين ، ومن أقل صور الخطورة في الاقتصاد المعرفي أنه سيكون سلعة باهضة الثمن تجاه المستهلك الذي قد لا يمتلك حينها ما يمكنه المقايضة به عدى حريته التي هي من أعز ما يملك .. لست هنا لعقد مقارنة بين الإيجابيات والسلبيات لهذه الظاهرة الفكرية الحقيقية بل يكفي من إيجابياتها أن من يسطر على المعرفة سيكون سيد الكوكب بلا منازع .
ولكني أبسط الأمر ففي الفنون والعلاقات والسلوكيات والأنماط المعيشية والنظم الاجتماعية ثروات معرفية قابلة للبيع والمقايضة ، ومن أسهل الأمور تربية النشء على مبادئ الاقتصاد المعرفي في مراحل التربية والتعليم وعبر الضخ الإعلامي الممنهج ، ولن يحدث هذا أي تغيير ظاهري على السياسات القائمة ، ولن يحتاج إلى كثير عناء ، أو مشقة يحتاج فقط إلى تفكير سليم وقرار صحيح من متخذي القرار .. ويمكنك كشخص أن تأخذ بزمام المبادرة وأن تبدأ بنفسك ، فلن يكلفك ذلك شيء سوى أن تدرك ما هي ما تقوم به ، ولا تنتظر دعماً من أحد .
سأكتفي بهذا القدر هنا .. ولي وقفات أخرى مع بعض تفاصيل الاقتصاد المعرفي والتجارة المعلوماتية ، فالنكسة الاقتصادية التي هزت العالم ، وما سبقها من موجة إرهاب وعنف وتطرف عم أرجاء الكوكب ، كلها داخلة تحت ظلال الثروة المعرفية ، وهذه صور لخسائر نتجت عن عدم المعرفة .. تحياتي وتقديري للجميع .