الاثنين، 1 فبراير 2016

في واحة الأحساء العجيبة

في واحة الأحساء العجيبة

د. فيصل خالد الغريب
المستشار وخبير الإتصال البشري
@dr_faisalkhaled


منذ قرابة القرنين استوطنت أسرتي الأحساء ، فهي منطقة تعج بالعلم والعلماء من المذاهب المتعددة التي لا تزال تحتفظ بشيء من تقاليدها المتوارثة منذ أجيال ، و الأحساء بلد متحضر منذ القدم ، وهي اليوم حاضرة جميلة تضم أكبر واحة خضراء وسط الصحراء في العالم .

ومع تاريخها الضارب في القدم و الذي يمكنك الاطلاع عليه عبر كتاب منطقة الأحساء عبر أطوار التاريخ ، ذلك الكتاب الذي ألفه والدي في صغري وشاركته مراجعته  ، إلا أن مظاهر المدنية و التقدم بادية على ملامحها الساحرة ، و واحة الأحساء الباسمة تزخر بعالم جمالي خاص ، فهي بلد يتمدد تحت الظلال ، فالنخيل تظلها و تخفي تحتها جمالاً من نوع آخر ، فسكان هذه الأرض ينعمون بالماء و الخضرة طوال العام منذ آلاف السنين ، ولهذا فهم لطفاء كلطف ورقة خضراء على جانب جدول ماء عذب  تفرع من عين " الخدود " تلك العين التي أجرت نهراً كان يدعى بحراً لعظمته في الزمن الغابر ،  وعندما تقف على قمة جبل القارة ، ستبهرك سحب من دخان أبيض تشق سطح أكبر بحر أخضر تحيط به تلال الصحراء الذهبية ، لتعرف حينها بأنك وسط بساتين النخيل الغناء .

الأحساء جنة تلوذ بها القوافل ، نجاة من لهيب الصحراء لتعبر إلى عمان ، وتقصدها سفن الهند لتستقر في ميناء العقير ، الذي تتلألأ أمواجه تحت أشعة الشمس الساطعة على مياه الخليج الصافية ، فالعقير ذلك الميناء الأسطوري الذي كان شريان الحياة شرق الجزيرة ، لا يزال صامداً حتى اليوم ليحكي للأجيال مغامرات البحارة في بحر الظلمات و جزر مدقشقر .

ولا تزال الأحساء تخفي الكثير من سحرها ، في بساتين الليمون وحقول الأرز و مخازن التمور التي تعبق برائحة زكية لتلك الجواهر البنية الحمراء ، التي تتقاطر عسلاً و شهداً ، وسترى عينيك النحل في أسراب من نخلة إلى زهرة ومن وردة إلى ثمرة ، وستشدك رائحة الخبز الأحمر المنبعثة من أفران جذوع النخل الجافة ، تلك التي تُنضج بنارها المتأججة مشاعر الشعراء ، في ليل الأحساء المقمر تحت ستار النجوم الفضية في ليلة آخر الشهر ، أو عندما يطل البدر بخجل من خلف سعفات النخل المتدلية بلطف على رؤوس المتأملين المتفكرين الركع السجود .

في واحة الأحساء يبرز سوق شريطي عتيق ، يعبق برائحة العطور ممتزجة بأريج البهارات الهندية و البخور ، من بين جفان الحبوب و صناديق البقول و أكياس الدقيق و البر ، لتعرف بأنك في سوق القيصرية الطيني العتيق ، وفي أروقته ستجد ما تبحث عنه من ذهب وجواهر و أقمشة من جميع أصقاع الأرض ، ولن تحتاج لأكثر من لحظة انبهار لتتوه في أزقة السوق الضيقة التي تقودك بلطف وإثارة إلى مساكن أهل البلدة وشارع المدير بكل ما فيه من نفحات الماضي .

ولو سرت خارجاً برجليك ، فلن يفلت عن ناظريك قصر طيني ضخم مهيب ، تعلو أفقه قبة عملاقة ومنارة شاهقة بيضاء ، ذلك الحصن المهيب هو قصر إبراهيم ، ولو وقفت على طرف سوره الغربي ، سترى في أفق البلدة قصر خزام ذلك القصر المغلق الذي تكسوه الظلمات ولعل له قصة ، ولن تحرمك الأحساء من قلاعها التي تسمى قصوراً لجمالها ، كقصر صاهود وغيره ، إن الأحساء جنة مليئة بالقصور الطينية التي تُنسج حولها الكثير من الأساطير ، ويسكن تحت ظلالها الناس في متعة وفرح تحت وقع أقدام الخليل التي يعلوها فرسان ملثمون .      

وواحة الأحساء الغناء ، هي مهجة الناظر وجنة المُناظر ، فهي بستان العارفين ، وتاريخ السنين ، و منبع الماء للشاربين ، زقزقات عصافيرها تدل السيارة في الوهاد من أصقاع البلاد ، هكذا كنت ومازلت أراها بعين الشوق للماضي .